فصل: التّعريف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


أهل الحرب

التّعريف

1 - أهل الحرب أو الحربيّون‏:‏ هم غير المسلمين الّذين لم يدخلوا في عقد الذّمّة، ولا يتمتّعون بأمان المسلمين ولا عهدهم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - أهل الذّمّة‏:‏

2 - أهل الذّمّة هم الكفّار الّذين أقرّوا في دار الإسلام على كفرهم بالتزام الجزية ونفوذ أحكام الإسلام فيهم‏.‏

ب - أهل البغي‏:‏

3 - أهل البغي أو البغاة‏:‏ هم فرقة خرجت على إمام المسلمين لمنع حقٍّ، أو لخلعه، وهم أهل مَنَعَةٍ‏.‏

والبغي‏:‏ هو الامتناع من طاعة من ثبتت إمامته في غير معصيةٍ بمغالبةٍ، ولو تأوّلاً‏.‏

ج - أهل العهد‏:‏

4 - هم الّذين صالحهم إمام المسلمين على إنهاء الحرب مدّةً معلومةً لمصلحةٍ يراها، والمعاهد‏:‏ من العهد‏:‏ وهو الصّلح المؤقّت، ويسمّى الهدنة والمهادنة والمعاهدة والمسالمة والموادعة‏.‏

د - المستأمنون‏:‏

5 - المستأمن في الأصل‏:‏ الطّالب للأمان، وهو الكافر يدخل دار الإسلام بأمانٍ، أو المسلم إذا دخل دار الكفّار بأمانٍ‏.‏

انقلاب الذّمّيّ أو المعاهد أو المستأمن حربيّاً

6 - يصبح الذّمّيّ والمعاهد والمستأمن في حكم الحربيّ باللّحاق باختياره بدار الحرب مقيماً فيها، أو إذا نقض عهد ذمّته فيحلّ دمه وماله، ويحاربه الإمام بعد بلوغه مأمنه وجوباً عند الجمهور، وجوازاً عند الشّافعيّة‏.‏

ولا خلاف في محاربته إذا حارب المسلمين أو أعان أهل الحرب، وللإمام أن يبدئه بالحرب، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وإن نَكَثُوا أيمانَهم من بعد عهدهم ، وطَعَنُوا في دينكم فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفرِ إِنّهم لا أَيْمَانَ لهم لعلّهم ينتهون‏}‏، وحينما نقضت قريش صلح الحديبية، سار إليهم الرّسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح سنة ثمانٍ من الهجرة، حتّى فتح مكّة‏.‏

وعندما «نقض بنو قريظة العهد سنة خمسٍ، قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجالهم، وسبى ذراريّهم، وأخذ أموالهم، وكذلك بنو النّضير لمّا نقضوا العهد، حاصرهم الرّسول صلى الله عليه وسلم سنة أربعٍ، وأجلاهم»‏.‏

وهناك اتّجاهان في أسباب نقض الذّمّة‏:‏

الأوّل، مذهب الحنفيّة‏:‏ وهو أنّه لا ينتقض عهد الذّمّيّين، إلاّ أن يكون لهم منعة يحاربون بها المسلمين، ثمّ يلحقون بدار الحرب، أو يغلبون على موضعٍ، فيحاربوننا‏.‏

الثّاني، مذهب الجمهور‏:‏ تنتقض الذّمّة بمخالفة مقتضى العهد على ما يأتي في مصطلح ‏(‏أهل الذّمّة‏)‏‏.‏

انقلاب الحربيّ ذمّيّاً

7 - يصبح الحربيّ ذمّيّاً إمّا بالتّراضي، أو بالإقامة لمدّة سنةٍ في دار الإسلام، أو بالزّواج، أو بالغلبة والفتح، على خلافٍ وتفصيلٍ يأتي بيانه في مصطلح ‏(‏أهل الذّمّة‏)‏‏.‏

انقلاب المستأمن إلى حربيٍّ

8 - المستأمن‏:‏ هو الحربيّ المقيم إقامةً مؤقّتةً في ديار الإسلام، فيعود حربيّاً لأصله بانتهاء مدّة إقامته المقرّرة له في بلادنا، لكن يبلغ مأمنه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ الّذين عاهدتم من المشركين، ثمّ لم يَنْقُصُوكم شيئاً، ولم يُظَاهِروا عليكم أحداً، فأَتِمُّوا إليهم عَهْدَهم إلى مُدَّتِهم‏}‏، أو بنبذ العهد، أي نقضه من جانب المسلمين، لوجود دلالةٍ على الخيانة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإمّا تَخَافَنَّ من قومٍ خيانةً، فانْبِذْ إليهم على سواءٍ، إنّ اللّه لا يُحِبُّ الخائنين‏}‏، وهي في أهل الهدنة أو الأمان، لا في أهل جزيةٍ، فلا ينبذ عقد الذّمّة، لأنّه مؤبّد، وعقد معاوضةٍ فهو آكد من عقد الهدنة‏.‏

وقد يصبح المستأمن حربيّاً بنقض الأمان من جانبه هو، أو بعودته لدار الحرب بنيّة الإقامة، لا التّجارة أو التّنزّه أو لحاجةٍ يقضيها، ثمّ يعود إلى دار الإسلام، فإذا رجع إليهم ولو لغير داره، انتهى أمانه‏.‏

هذا، وكلّ ما ينتقض به عهد الذّمّيّ، ينتقض به أمان المستأمن، على حسب الاتّجاهين السّابقين، لأنّ عقد الذّمّة أمان مؤبّد، وآكد من الأمان المؤقّت، ولأنّ المستأمن كالذّمّيّ يلتزم بتطبيق أحكام الإسلام‏.‏

ومن نقض أمانه بنقض العهد ينبذ إليه ويبلغ المأمن عند الجمهور، ويخيّر الإمام في شأنه كالأسير الحربيّ، من قتلٍ ومنٍّ وفداءٍ وغيره عند الحنابلة‏.‏

انقلاب الحربيّ إلى مستأمنٍ

9 - يصير الحربيّ مستأمناً بالحصول على أمانٍ من كلّ مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ عند الجمهور، أو حتّى من مميّزٍ عند آخرين‏.‏

دخول الحربيّ بلاد المسلمين بغير أمانٍ

10 - ليس لأهل الحرب دخول دار الإسلام بغير أمانٍ، لأنّه لا يؤمن أن يدخل جاسوساً، أو متلصّصاً، أو لشراء سلاحٍ، فيضرّ بالمسلمين‏.‏

فإن قال‏:‏ دخلت لسماع كلام اللّه تعالى، أو دخلت رسولاً، سواء أكان معه كتاب أم لم يكن، أو دخلت بأمان مسلمٍ، صدّق ولا يتعرّض له، لاحتمال ما يدّعيه، وقصد ذلك يؤمّنه من غير احتياجٍ إلى تأمينٍ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنْ أحدٌ من المشركين استَجَارَك فَأَجِرْهُ حتّى يسمعَ كلامَ اللّهِ، ثمّ أبلِغْه مَأْمَنَهُ‏}‏، وهذا قول الشّافعيّة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن ادّعى الأمان لا يصدّق فيه، بل يطالب ببيّنةٍ، لإمكانها غالباً، ولأنّ الثّابت بالبيّنة كالثّابت بالمعاينة‏.‏

وقريب من هذا قول الحنابلة‏:‏ إنّ من دخل من الحربيّين دار الإسلام بغير أمانٍ، وادّعى أنّه رسول، أو تاجر ومعه متاع يبيعه، قبل منه، ويحقن دمه، إن صدّقته عادة، كدخول تجّارهم إلينا ونحوه، لأنّ ما ادّعاه ممكن، فيكون شبهةً في درء القتل، ولأنّه يتعذّر إقامة البيّنة على ذلك، فلا يتعرّض له، ولجريان العادة مجرى الشّرط‏.‏

فيصدق إن كان معه تجارة يتّجر بها، لأنّ التّجارة لا تحصل بغير مالٍ، ويصدّق مدّعي الرّسالة إن كان معه رسالة يؤدّيها‏.‏ وإن قال‏:‏ أمّنني مسلم، ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يقبل تغليباً لحقن دمه، كما يقبل من الرّسول والتّاجر‏.‏

والثّاني‏:‏ لا يقبل، لأنّ إقامة البيّنة عليه ممكنة‏.‏ فإن قال مسلم‏:‏ أنا أمّنته، قبل قوله، لأنّه يملك أن يؤمّنه، فقبل قوله فيه، كالحاكم إذا قال‏:‏ حكمت لفلانٍ على فلانٍ بحقٍّ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن أخذ الحربيّ بأرض الحربيّين حال كونه مقبلاً إلينا، أو قال‏:‏ جئت أطلب الأمان منكم، أو أخذ بأرضنا ومعه تجارة، وقال لنا‏:‏ إنّما دخلت أرضكم بلا أمانٍ، لأنّي ظننت أنّكم لا تتعرّضون لتاجرٍ، أو أخذ على الحدود بين أرضنا وأرضهم، وقال ما ذكر، فيردّ لمأمنه في هذه الحالات‏.‏ فإن وجدت قرينة كذبٍ، لم يردّ لمأمنه‏.‏

أمّا إن دخل الحربيّ بلاد المسلمين بغير أمانٍ، ولم تتحقّق حالة من الحالات السّابقة، فعند الجمهور يعتبر كالأسير أو الجاسوس، فيخيّر فيه الإمام بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء بحسب المصلحة‏.‏ وفي قول أبي حنيفة يكون فيئاً لجماعة المسلمين‏.‏

دماء أهل الحرب وأموالهم

11 - الحرب - كما هو معروف - حالة عداءٍ وكفاحٍ مسلّحٍ بين فريقين، تقتضي إباحة الدّماء والأموال، وهذا يقتضي بحث حالة العدوّ في غير حالة العهد، وفي حالة العهد‏:‏

أ - في غير حالة العهد‏:‏ الحربيّ غير المعاهد مهدر الدّم والمال، فيجوز قتل المقاتلين، لأنّ كلّ من يقاتل فإنّه يجوز قتله، وتصبح الأموال من عقاراتٍ ومنقولاتٍ غنيمةً للمسلمين، وتصير بلاد العدوّ بالغلبة أو الفتح ملكاً للمسلمين، ويكون وليّ الأمر مخيّراً في الأسرى بين أمورٍ‏:‏ هي القتل، والاسترقاق، والمنّ ‏(‏إطلاق سراح الأسير بلا مقابلٍ‏)‏، والفداء ‏(‏تبادل الأسرى أو أخذ المال فديةً عنهم‏)‏، وفرض الجزية على الرّجال القادرين‏.‏

فإن قبلوا الجزية وعقد الإمام لهم الذّمّة، أصبحوا أهل ذمّةٍ، ويكون لهم ما للمسلمين من الإنصاف، وعليهم ما عليهم من الانتصاف، قال عليّ رضي الله عنه‏:‏ إنّما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ أهل الذّمّة‏)‏‏.‏

ولا تتحقّق هذه الأحكام إلاّ بمشروعيّة الجهاد، كما ذكر في الفتاوى الهنديّة، ففيها‏:‏ يشترط لإباحة الجهاد شرطان‏:‏

أحدهما‏:‏ امتناع العدوّ عن قبول ما دعي إليه من الدّين الحقّ، وعدم الأمان والعهد بيننا وبينهم‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يرجو الإمام الشّوكة والقوّة لأهل الإسلام، باجتهاده أو باجتهاد من يعتدّ باجتهاده ورأيه‏.‏ وإن كان لا يرجو القوّة والشّوكة للمسلمين في القتال، فإنّه لا يحلّ له القتال، لما فيه من إلقاء النّفس في التّهلكة‏.‏

ب - في حالة العهد‏:‏ العهد من ذمّةٍ أو هدنةٍ أو أمانٍ يعصم الدّم والمال بالنّسبة للحربيّ، فإن وجد عهد عصم دمه وماله، وإن لم يوجد فهو على الأصل مهدر الدّم والمال‏.‏

وتبحث هنا أمور‏:‏

أوّلاً‏:‏ قتل المسلم أو الذّمّيّ حربيّاً‏:‏

12 - جمهور الفقهاء على أنّه لا يقتصّ من المسلم والذّمّيّ بقتل الحربيّ، ولو كان مستأمناً، كما لا دية عليهما بقتل الحربيّ غير المستأمن، بسبب وجود الشّبهة في إباحة دم الحربيّ، ولكونه مباح الدّم في الأصل‏.‏ وشرط القصاص ووجوب الدّية‏:‏ كون المقتول معصوم الدّم أو محقون الدّم، أي يحرم الاعتداء على حياته، بل لا تجب الكفّارة عند القائلين بلزومها في حالة قتل مباح الدّم - كالحربيّ - قتلاً عمداً‏.‏

ثانياً‏:‏ حصول المسلم أو الذّمّيّ على شيءٍ من مال الحربيّ بمعاملةٍ يحرّمها الإسلام‏:‏

13 - إذا دخل المسلم أو الذّمّيّ دار الحرب بأمانٍ فعاقد حربيّاً عقداً مثل الرّبا، أو غيره من العقود الفاسدة في حكم الإسلام، أو أخذ ماله بالميسر ونحوه ممّا حرّمه الإسلام، لم يحلّ له ذلك عند الجمهور، ومنهم أبو يوسف من الحنفيّة‏.‏

واستدلّوا بأنّ حرمة الرّبا ثابتة في حقّ المسلم والحربيّ، أمّا بالنّسبة للمسلم فظاهر، لأنّ المسلم ملتزم بأحكام الإسلام حيثما يكون، وأمّا بالنّسبة للحربيّ، فلأنّه مخاطب بالمحرّمات، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وأَخْذِهُم الرّبا وقد نُهُوا عنه‏}‏، وآيات تحريم الرّبا، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحرَّمَ الرّبا‏}‏، وسائر الآيات والأخبار الدّالّة على تحريم الرّبا، وهي عامّة تتناول الرّبا في كلّ مكان وزمانٍ‏.‏

وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى جواز ذلك، مستدلّين بأنّ المسلم يحلّ له أخذ مال الحربيّ من غير خيانةٍ ولا غدرٍ، لأنّ العصمة منتفية عن ماله، فإتلافه مباح، وفي عقد الرّبا ونحوه المتعاقدان راضيان، فلا غدر فيه، والرّبا ونحوه كإتلاف المال، وهو جائز‏.‏ قال محمّد في السّير الكبير‏:‏ وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمانٍ، فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأيّ وجهٍ كان، لأنّه إنّما أخذ المباح على وجهٍ عرا عن الغدر، فيكون ذلك طيّباً منه‏.‏ وأمّا خيانة المسلم المستأمن عندهم فمحرّمة، لأنّهم إنّما أعطوا الأمان للمسلم أو الذّمّيّ مشروطاً بتركه خيانتهم، وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللّفظ، فهو معلوم في المعنى، ولذلك من جاءنا منهم بأمانٍ فخاننا، كان ناقضاً لعهده‏.‏

وإذا ثبت هذا لم تحلّ للمسلم خيانة الحربيّين إذا دخل دارهم بأمانٍ، لأنّه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المسلمون عند شروطهم» فإن خانهم، أو سرق منهم، أو اقترض شيئاً، وجب عليه ردّ ما أخذ إلى أربابه، فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمانٍ، أو إيمانٍ، ردّه عليهم، وإلاّ بعث به إليهم، لأنّه أخذه على وجهٍ حرم عليه أخذه، فلزمه ردّ ما أخذ، كما لو أخذه من مال مسلمٍ‏.‏

قال الإمام الشّافعيّ في الأمّ‏:‏ وممّا يوافق التّنزيل والسّنّة ويعقله المسلمون، ويجتمعون عليه، أنّ الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في دار الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراماً، فقد حدّه اللّه على ما شاء منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً‏.‏

ثالثاً‏:‏ إتلاف ممتلكات أهل الحرب‏:‏

أ - في حالة الأمان أو العهد‏:‏

14 - العهد يعصم الدّماء والأموال، ويوجب الكفّ عن أعمال القتال، قال بعض فقهاء الحنفيّة‏:‏ إذا دخل المسلم دار الحرب تاجراً ‏(‏بأمانٍ‏)‏، فلا يحلّ له أن يتعرّض لشيءٍ من أموالهم ولا من دمائهم، لأنّه ضمن ألا يتعرّض لهم بالاستئمان، فالتّعرّض بعد ذلك يكون غدراً والغدر حرام، إلاّ إذا غدر به ملكهم، فأخذ أمواله أو حبسه، أو فعل ذلك غير الملك بعلم الملك ولم يمنعه، لأنّهم هم الّذين نقضوا العهد، بخلاف الأسير، لأنّه غير مستأمنٍ، فيباح له التّعرّض للمال والدّم، وإن أطلقوه طوعاً‏.‏

ب - في حالة عدم العهد والأمان‏:‏

15 - في حال الحرب يجوز بالاتّفاق إتلاف أشجار العدوّ، وذبح مواشيهم، وإتلاف سائر أموالهم إن كان في ذلك مصلحة للمسلمين، كإتلاف ما يتقوّون به من الآليّات والحصون والسّلاح والخيل، وإتلاف الشّجر الّذي يستترون به، أو يعوق العمليّات الحربيّة، أو يحتاج المسلمون لقطعه لتوسيع طريقٍ، أو تمكّنٍ من سدّ ثغرةٍ، أو احتاجوا إليه للأكل، أو يكون الكفّار يفعلون بنا ذلك، فنفعل بهم مثله لينتهوا، فهذا يجوز بغير خلافٍ‏.‏

وأمّا إتلاف ذلك لغير مصلحةٍ إلاّ لمغايظة الكفّار والإضرار بهم والإفساد عليهم، فقد اختلف الفقهاء في ذلك‏.‏ فذهب الحنفيّة والمالكيّة وأحمد في روايةٍ في الأشجار والزّروع‏:‏ إلى أنّ ذلك جائز، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ما قَطَعْتُم من لِينَةٍ أو تركتموها قائمةً على أصولها فَبِإِذنِ اللّه وَلِيُخْزِيَ الفاسقين‏}‏‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏ولا يَنَالُون من عَدُوٍّ نيلاً إلاّ كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ‏}‏، لكن قال ابن الهمام‏:‏ هذا إذا لم يغلب على الظّنّ أنّهم مأخوذون بغير ذلك، فإن كان الظّاهر أنّهم مغلوبون، وأنّ الفتح بادٍ ‏(‏أي ظاهر قريب‏)‏ كره ذلك، لأنّه إفساد في غير محلّ الحاجة، وما أبيح إلاّ لها‏.‏

وقال الحنابلة في روايةٍ والأوزاعيّ واللّيث وأبو ثورٍ‏:‏ لا يجوز ذلك لأنّه إتلاف محض‏.‏

عمل ما ينفع أهل الحرب ويقوّيهم

أ - الوصيّة لأهل الحرب‏:‏

16- هناك اتّجاهان في الوصيّة لأهل الحرب‏:‏

الاتّجاه الأوّل‏:‏ لا تصحّ الوصيّة للحربيّ إذا كان في دار الحرب، لأنّ في ذلك قوّةً لهم، فالتّبرّع بتمليكه المال، يكون إعانةً له على الحرب، وأنّه لا يجوز، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما يَنْهاكم اللّهُ عن الّذين قَاتَلوكم في الدِّين، وأخرجُوكم من ديارِكم، وظَاهَروا على إخراجِكم أَنْ تَوَلَّوْهُم، ومن يتولّهم فأولئك هم الظّالمون‏}‏‏.‏

فدلّ ذلك على أنّ من قاتلنا لا يحلّ برّه، وهذا اتّجاه الحنفيّة والمالكيّة‏.‏

والاتّجاه الثّاني‏:‏ للشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة - يجيز الوصيّة لحربيٍّ معيّنٍ، لا لعامّة الحربيّين، سواء أكان بدار الحرب أم بدارنا، لأنّه تصحّ الهبة والصّدقة له، فصحّت له الوصيّة كالذّمّيّ، وقد روي‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى عمر حلّةً، فقال‏:‏ يا رسول اللّه، أكسوتنيها‏:‏ وقد قلت في حلّة عطارد ما قلت‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّي لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكّة»‏.‏

وعن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قالت‏:‏ «أتتني أمّي راغبة في عهد قريشٍ، وهي مشركة، فسألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أصلها‏؟‏ قال‏:‏ نعم»‏.‏ زاد البخاريّ‏.‏ قال ابن عيينة‏:‏ فأنزل اللّه فيها‏:‏ ‏{‏لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين …‏}‏ الآية، ومعنى راغبةٍ‏:‏ أي طامعة تسألني شيئاً‏.‏ فهذان فيهما صلة أهل الحرب وبرّهم، ثمّ قد حصل الإجماع على جواز الهبة، والوصيّة في معناها‏.‏

ومن أدلّة الجواز‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنْ جَاهدَاك على أن تُشْرِكَ بي ما ليس لك به علمٌ فلا تُطِعْهُما وصاحِبْهما في الدّنيا مَعْرُوفاً‏}‏‏.‏

ب - الوقف على أهل الحرب‏:‏

17 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّه لا يجوز الوقف على الحربيّين، والوقف باطل، لأنّ أموالهم مباحة في الأصل، ويجوز أخذها منهم بالقهر والغلبة، فما يتجدّد لهم أولى، والوقف لا يجوز أن يكون مباح الأخذ، لأنّه تحبيس الأصل، ولأنّه يشترط في الوقف أن يكون قربةً في ذاته، وعند التّصرّف، والوقف على الحربيّ معصية وليس قربةً‏.‏

ج - الصّدقة على أهل الحرب‏:‏

18 - اتّفق الأئمّة الأربعة على صحّة الصّدقة أو الهبة للحربيّ، لأنّه ثبت في السّيرة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوةٍ، حين كان بمكّة محارباً، واستهداه أدماً»‏.‏ و «بعث بخمسمائة دينارٍ إلى أهل مكّة حين قحطوا لتوزّع بين فقرائهم ومساكينهم»‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُطْعِمُون الطّعامَ على حُبِّهِ مِسْكيناً ويتيماً وأسيراً إنّما نطعمكم لوجْهِ اللّه لا نُريدُ منكم جَزَاءً ولا شُكُوراً‏}‏‏.‏ قال الحسن كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول‏:‏ «أحسن إليه» فيكون عنده اليومين والثّلاثة، فيؤثر على نفسه‏.‏ وعند عامّة العلماء‏:‏ يجوز الإحسان إلى الكفّار في دار الإسلام، وعن قتادة‏:‏ كان أسيرهم يومئذٍ المشرك‏.‏

د - توارث الذّمّيّ والحربيّ‏:‏

19 - يرى جمهور الفقهاء أنّ اختلاف الدّارين لا يمنع من التّوارث بين الكفّار، ويرى بعض الفقهاء أنّ اختلاف الدّارين يمنع التّوارث‏.‏ وفي ذلك تفصيل تقدّم في ‏(‏إرثٍ/ ج 3‏)‏‏.‏

هـ - إرث المسلم الحربيّ، والحربيّ المسلم‏:‏

20 - ذهب الجمهور إلى أنّه لا يرث المسلم كافراً، والكفّار مسلماً، وفي ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه في‏:‏ ‏(‏إرثٍ‏)‏‏.‏

و - الاتّجار مع أهل الحرب‏:‏

21 - تدلّ عبارات الفقهاء على جواز الاتّجار مع الحربيّين، فللمسلم أو الذّمّيّ دخول دار الحرب بأمانٍ للتّجارة، وللحربيّ دخول دارنا تاجراً بأمانٍ، وتؤخذ العشور على التّجارة العابرة عند اجتياز حدود دار الإسلام‏.‏ ولكن لا يجوز إمداد المحاربين بما يقوّيهم من السّلاح والآلات والموادّ الّتي يصنع منها السّلاح، كما لا يجوز السّماح بالاتّجار بالمحظورات الشّرعيّة كالخمور والخنازير وسائر المنكرات، لأنّها مفاسد ممنوعة شرعاً، ويجب مقاومتها‏.‏ وليس للحربيّ المستأمن شراء الأسلحة من بلاد الإسلام‏.‏

وفيما عدا هذه القيود يجوز أن تظلّ حرّيّة التّجارة قائمةً، إلاّ أنّ المالكيّة انفردوا بالقول بمنع التّصدير من بلادنا، ومتاجرة المسلمين في دار الحرب إذا كانت أحكامهم تجري على التّجّار، لأنّ في تصدير أيّ شيءٍ إليهم تقويةً لهم على المسلمين، ولأنّ المسلم ممنوع من الإقامة في دار الشّرك، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا بَرِيءٌ من كُلِّ مُسْلمٍ يُقِيْمُ بين أَظْهُرِ المشركين»‏.‏ كما أنّه لا يجوز تصدير الأطعمة ونحوها إلاّ إذا كانت هناك هدنة مع العدوّ، أمّا في غير الهدنة فلا يجوز‏.‏

والأدلّة على جواز التّصدير من بلادنا منها‏:‏ حديث ثمامة بن أثالٍ الحنفيّ بعد أن أسلم، «فإنّه قال لأهل مكّة حين قالوا له‏:‏ صبوت‏؟‏ فقال‏:‏ إنّي واللّه ما صبوت، ولكنّي واللّه أسلمت، وصدّقت محمّداً صلى الله عليه وسلم وآمنت به، وايم اللّه الّذي نفس ثمامة بيده، لا تأتيكم حبّة من اليمامة – وكانت ريف مكّة – حتّى يأذن فيها محمّد صلى الله عليه وسلم وانصرف إلى بلده، ومنع الحمل إلى مكّة، حتّى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة، يحمل إليهم الطّعام، ففعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم»‏.‏ فهذا يدلّ على جواز تصدير الأطعمة ونحوها إلى الأعداء، حتّى ولو كانت حالة الحرب قائمةً معهم‏.‏

ومن الأدلّة أيضاً الأحاديث السّابقة المذكورة في بحث الصّدقة على أهل الحرب والوصيّة لهم ‏(‏قصّة إهداء التّمر لأبي سفيان، وصلة أسماء أمّها المشركة، وإطعام المسلمين الأسرى‏)‏‏.‏ أمّا الدّليل على حظر تصدير الأسلحة ونحوها، فمنه‏:‏

حديث عمران بن حصينٍ رضي الله عنه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السّلاح في الفتنة»، والفتنة‏:‏ الحروب الدّاخليّة، وفتنة غير المسلمين أشدّ عليهم، فكان أولى ألاّ يباع لهم‏.‏ وقال الحسن البصريّ‏:‏ لا يحلّ لمسلمٍ أن يحمل إلى عدوّ المسلمين سلاحاً يقوّيهم به على المسلمين، ولا كراعاً، ولا ما يستعان به على السّلاح والكراع‏.‏

هذا وإنّ في بيع السّلاح للأعداء تقويةً لهم على قتال المسلمين، وباعثاً لهم على شنّ الحروب، ومواصلة القتال لاستعانتهم به، وذلك يقتضي المنع‏.‏

نكاح المسلم الحربيّة الكتابيّة

22 - صريح القرآن أنّه يحلّ للمسلم التّزوّج بالمرأة الكتابيّة، ويدخل في ذلك الذّمّيّات منهنّ، كما تدخل الحربيّات الكتابيّات لا فرق بين الصّنفين، وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطعامُ الّذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامُكم حِلٌّ لهم والمحصناتُ من المؤمنات والمحصناتُ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ على أنّ في ذلك خلافاً وتفصيلاً يرجع إليه في بحث ‏(‏نكاحٍ‏)‏‏.‏

النّفقة على الزّوجة والأقارب الحربيّين

أوّلاً‏:‏ نفقة الزّوجة الحربيّة‏:‏

23 - اتّفق الفقهاء على وجوب النّفقة للزّوجة مطلقاً، فالكتابيّة كالمسلمة في استحقاق النّفقة وغيرها من حقوق الزّواج، سواء كانت الزّوجة في أثناء الزّواج فعلاً، أم في العدّة، لاشتراكهما ‏(‏أي المسلمة وغيرها‏)‏ في رابطة الزّوجيّة، وفي سبب الاستحقاق وشرطه، فهي محبوسة على الزّوج يمنعها من التّصرّف والاكتساب، فوجبت نفقتها عليه‏.‏ واللّه تعالى أثبت للزّوجة حقّ النّفقة على زوجها، لقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏لِيُنفقْ ذو سَعَةٍ من سعته ومن قُدِرَ عليه رِزقُه فلْينفقْ ممّا آتاه اللَّهُ لا يكلّف اللّهُ نفساً إلاّ ما آتاها‏}‏، ولم تفرّق النّصوص بين المسلمة والكتابيّة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ نفقة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ نفقة الأقارب الحربيّين‏:‏

24 - يرى المالكيّة على المشهور والشّافعيّة أنّه تجب على الموسر المسلم نفقة أقاربه المعسرين، ولو كانوا كفّاراً، أي ولو كان هناك اختلاف في الدّين، لكن بعض أصحاب هذا الاتّجاه يقصرون إيجاب النّفقة على الوالدين والولد فقط، فتجب عندهم النّفقة على الولد لأبويه المعسرين فقط، كما تجب نفقة الولد المعسر على أبيه الموسر، سواء أكان الولد كافراً والأبوان مسلمين، أم كان الولد مسلماً والأبوان كافرين‏.‏

والشّافعيّة يوجبون نفقة الوالد وإن علا، ونفقة الولد وإن سفل، وإن اختلفت ملّتهما‏.‏ ودليل الفريقين‏:‏ وجود الموجب للنّفقة، وهو الجزئيّة والبعضيّة بين الوالد والولد، كالحكم بردّ الشّهادة بسبب الولادة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ نفقة‏)‏‏.‏

ويرى الحنفيّة والحنابلة‏:‏ أنّه لا تجب النّفقة بسبب اختلاف الدّين، فلا تجب على المسلم نفقة أبويه الحربيّين، ولا يجبر الحربيّ على الإنفاق على أبيه المسلم أو الذّمّيّ، لأنّ استحقاق النّفقة بطريق الصّلة والبرّ والمواساة، ولا تستحقّ الصّلة للحربيّ، للنّهي عن برّهم، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما يَنهاكم اللّهُ عن الّذين قاتَلوكم في الدّين وأخْرَجوكم من ديارِكم وظَاهَرُوا على إخراجكم أن تَوَلَّوْهُم ومن يتولّهم فأولئك هم الظّالمون‏}‏، ولأنّهما غير متوارثين، فلم يجب لأحدهما على الآخر نفقته بالقرابة‏.‏

وتختلف عن نفقة الزّوجات، لأنّ نفقة الزّوجات عوض تجب مع الإعسار، فلم ينافها اختلاف الدّين كالصّداق والأجرة، ولأنّ نفقة الوالدين صلة ومواساة كما ذكر، فلا تجب مع اختلاف الدّين، كأداء زكاته إليه، وإرثه منه‏.‏ لكن يقول الحنابلة، والكاسانيّ من الحنفيّة‏:‏ تجب النّفقة بين الذّمّيّ والمستأمن، أو بين المستأمنين في قرابة الأصول والفروع، لأنّ اختلاف الدّين لا يمنع من الإلزام بالنّفقة في حقّ الولادة‏.‏

أهل الحلّ والعقد

التّعريف

1 - يطلق لفظ ‏"‏ أهل الحلّ والعقد ‏"‏ على أهل الشّوكة من العلماء والرّؤساء ووجوه النّاس الّذين يحصل بهم مقصود الولاية، وهو القدرة والتّمكّن، وهو مأخوذ من حلّ الأمور وعقدها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - أهل الاختيار‏:‏

2 - أهل الاختيار هم الّذين وكّل إليهم اختيار الإمام‏.‏ وهم جماعة من أهل الحلّ والعقد، وقد يكونون جميع أهل الحلّ والعقد، وقد يكونون بعضاً منهم‏.‏

ب - أهل الشّورى‏:‏

3 - المستقرئ لحوادث التّاريخ يجد أنّ هناك فرقاً بين أهل الشّورى وأهل الحلّ والعقد، إذ الصّفة البارزة في أهل الشّورى ‏"‏ هي العلم ‏"‏ لكن الصّفة البارزة في أهل الحلّ والعقد هي ‏"‏ الشّوكة ‏"‏‏.‏ فقد ورد أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان إذا حزبه أمر استدعى عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان وعبد الرّحمن بن عوفٍ ومعاذ بن جبلٍ وأبيّ بن كعبٍ وزيد بن ثابتٍ، وكلّ هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكرٍ، فاستشارهم في حين كان من بين الّذين تولّوا بيعة أبي بكرٍ من أهل الحلّ والعقد بشير بن سعدٍ، ولم يكن بشير من أهل الفتوى من الصّحابة، ولكنّه كان مسموع الكلمة في قومه - الخزرج - ويقال إنّه أوّل من بايع أبا بكرٍ الصّدّيق يوم السّقيفة من الأنصار‏.‏

صفات أهل الحلّ والعقد

4 - لمّا نيط بأهل الحلّ والعقد عمل معيّن - وهو تعيين الخلفاء - كان لا بدّ من أن تتوفّر فيهم الصّفات التّالية‏:‏

أ - العدالة الجامعة لشروطها الواجبة في الشّهادات من الإسلام والعقل والبلوغ وعدم الفسق واكتمال المروءة‏.‏

ب - العلم الّذي يوصل به إلى معرفة من يستحقّ الإمامة على الشّروط المعتبرة فيها‏.‏

ج - الرّأي والحكمة المؤدّيان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح‏.‏

د - أن يكون من ذوي الشّوكة الّذين يتّبعهم النّاس، ويصدرون عن رأيهم، ليحصل بهم مقصود الولاية‏.‏

هـ- الإخلاص والنّصيحة للمسلمين‏.‏

تعيين أهل الاختيار من أهل الحلّ والعقد

5 - الأصل أنّ أهل الحلّ والعقد هم كلّ من تتوافر فيه الصّفات السّابقة، إلاّ أنّ من يباشر الاختيار منهم هم فئة منهم في الغالب يطلق عليها أهل الاختيار‏.‏

ويتمّ تعيين أهل الاختيار ‏(‏وهم مجموعة من أهل الحلّ والعقد‏)‏ بأحد طريقين‏:‏

أ - تعيّن الخليفة لهم‏:‏ كما فعل عمر بن الخطّاب بتعيين ستّةٍ من أهل الحلّ والعقد ليختاروا واحداً منهم خليفةً للمسلمين بعده، وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة دون نزاعٍ‏.‏

ب - التّعيين بالحضور‏:‏ إذا لم يعيّن الخليفة جماعةً من أهل الحلّ والعقد فإن من يتيسّر حضوره منهم تنعقد به البيعة، ويقوم الحضور مقام التّعيين‏.‏

أعمال أهل الحلّ والعقد

6 - من ذلك‏:‏

أ - تولية الخليفة‏:‏ وهذا إجماع لا خلاف فيه لأحدٍ من أهل السّنّة والجماعة‏.‏

ب - تجديد البيعة لمن عهد إليه بالإمامة عند وفاة الإمام، إذا كان حين عهد إليه غير مستجمعٍ لشروط انعقاد الإمامة، قال الماورديّ‏:‏ تعتبر شروط الإمامة في المولّى من وقت العهد إليه، فإن كان صغيراً أو فاسقاً وقت العهد، ثمّ أصبح بالغاً عدلاً عند موت المولّي لم تصحّ خلافته، حتّى يستأنف أهل الاختيار بيعته‏.‏

ج - استقدام المعهود إليه الغائب عند موت الإمام‏.‏

د - تعيين نائبٍ للإمام الّذي ولّي غائباً إلى أن يقدم، قال الماورديّ‏:‏ إذا عهد الإمام إلى غائبٍ، ومات الإمام والمعهود إليه على غيبته، استقدمه أهل الاختيار، فإن بعدت غيبته واستضرّ المسلمون بتأخير النّظر في أمورهم استناب أهل الاختيار نائباً عنه، يبايعونه بالنّيابة دون الخلافة‏.‏

هـ - عزل الإمام عند وجود ما يقتضيه وينظر في إمامته‏.‏

عدد من تنعقد بهم الإمامة من أهل الحلّ والعقد

7 - اختلف العلماء في عدد من تنعقد بهم الإمامة من أهل الحلّ والعقد على مذاهب شتّى فقالت طائفة‏:‏ لا تنعقد إلاّ بأكثريّة أهل الحلّ والعقد من كلّ بلدٍ، ليكون الرّضى به عامّاً، والتّسليم لإمامته إجماعاً، وهو ما ذهب إليه الحنابلة، قال الإمام أحمد‏:‏ الإمام الّذي يجتمع عليه، كلّهم يقول‏:‏ هذا إمام‏.‏ وقالت طائفة أخرى‏:‏ أقلّ من تنعقد به منهم خمسة، يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضى الأربعة‏.‏ والّذي عليه الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الإمامة تنعقد بتولية جماعةٍ من أهل الحلّ والعقد دون تحديد عددٍ معيّنٍ‏.‏

وتفصيل ما أجمل هنا موطنه مصطلح ‏(‏الإمامة الكبرى‏)‏‏.‏

أهل الخبرة

انظر‏:‏ خبرةً‏.‏

أهل الخطّة

انظر‏:‏ أهل المحلّة‏.‏

أهل الدّيوان

التّعريف

1 - الدّيوان‏:‏ لفظ فارسيّ معرّب معناه‏:‏ مجتمع الصّحف والكتاب، يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطيّة‏.‏ والدّيوان‏:‏ جريدة الحساب ثمّ أطلق على الحساب‏.‏ ثمّ أطلق على موضع الحساب‏.‏ ويسمّى مجموع شعر الشّاعر ديواناً، قال صاحب التّاج‏:‏ فمعانيه خمسة‏:‏ الكتبة، ومحلّهم، والدّفتر، وكلّ كتابٍ، ومجموع الشّعر‏.‏

والدّيوان عند الفقهاء‏:‏ هو الدّفتر الّذي يثبت فيه أسماء العاملين في الدّولة ولهم رزق أو عطاء في بيت المال، ويراد به أيضاً المكان الّذي فيه الدّفتر المذكور وكتابه‏.‏

وأهل الدّيوان‏:‏ هم هؤلاء الّذين يأخذون رزقاً منه‏.‏ ووظيفة الدّيوان‏:‏ حفظ ما يتعلّق بحقوق الدّولة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمّال‏.‏

أوّل من وضع الدّيوان، وسبب وضعه

2 - أوّل من وضع الدّيوان في الدّولة الإسلاميّة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وذلك لمّا قدم عليه أبو هريرة رضي الله عنه بمالٍ من البحرين، فقال له عمر‏:‏ ماذا جئت به‏؟‏ فقال‏:‏ خمسمائة ألف درهمٍ‏.‏ فاستكثره عمر، فقال‏:‏ أتدري ما تقول‏؟‏ قال‏:‏ نعم، مائة ألفٍ خمس مرّاتٍ، فقال عمر‏:‏ أطيّب هو‏؟‏ فقال‏:‏ لا أدري، فصعد عمر المنبر، فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه، ثمّ قال‏:‏ أيّها النّاس قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلاً، وإن شئتم عددنا لكم عدّاً، فقام إليه رجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدوّنون ديواناً لهم، فدوّن أنت لهم ديواناً‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل سبب وضعه أنّ عمر بعث بعثاً، وكان عنده الهرمزان، فقال لعمر‏:‏ هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال فإن تخلّف منهم رجل وآجل بمكانه، فمن أين يعلم صاحبك به، فأثبت لهم ديواناً، فسأله عن الدّيوان حتّى فسّره له‏.‏

أصناف أهل الدّيوان

3 - سبق أنّ أهل الدّيوان هم من يرزقون منه، وهم‏.‏ عدّة أصنافٍ منهم‏:‏

أ - أفراد الجيش‏:‏ لا بدّ لإثباتهم في الدّيوان من شروطٍ أوردها الماورديّ وهي‏:‏

1 - البلوغ‏:‏ فإنّ الصّبيّ من جملة الذّراريّ والأتباع، فكان عطاؤه جارياً في عطاء الذّراريّ‏.‏

2 - الحرّيّة‏:‏ لأنّ المملوك تابع لسيّده، فكان داخلاً في عطائه، وخالف في هذا الشّرط أبو حنيفة، وهو رأي أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه‏.‏

3 - الإسلام‏:‏ ليدفع عن الملّة باعتقاده ويوثق بنصحه واجتهاده‏.‏

4 - السّلامة من الآفات المانعة من القتال‏.‏

5 - أن يكون فيه إقدام على الحرب ومعرفة بالقتال‏.‏

6 - أن يتجرّد عن كلّ عملٍ‏.‏ ولا يخفى أنّ هذه الشّروط تنظيميّة قابلة للنّظر فيها بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة بما يحقّق المصلحة‏.‏

ب - ذوو الولايات، كالولاة والقضاء والعلماء والسّعاة على المال جمعاً وحفظاً وقسمةً ونحو ذلك، وأئمّة الصّلاة والمؤذّنين‏.‏

ج - ذوو الحاجات، لأثر عمر رضي الله عنه، ليس أحد أحقّ بهذا المال من أحدٍ، إنّما هو الرّجل وسابقته، والرّجل وغناؤه، والرّجل وبلاؤه، والرّجل وحاجته‏.‏

القول الضّابط في المصارف

4 - قال إمام الحرمين‏:‏ من يرعاه الإمام بما في يده من المال ثلاثة أصنافٍ‏:‏

- 1 - صنف منهم محتاجون، والإمام يبغي سدّ حاجاتهم، وهؤلاء معظم مستحقّي الزّكوات، الّذين ورد ذكرهم في الآية ‏{‏إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

- 2 - أقوام يبغي الإمام كفايتهم، ويدرأ عنهم بالمال الموظّف لهم حاجتهم، ويتركهم مكفيّين ليكونوا متجرّدين لما هم بصدده من مهمّ الإسلام، وهؤلاء صنفان‏:‏

أ - المرتزقة‏:‏ وهم نجدة المسلمين وعدّتهم ووزرهم وشوكتهم، فينبغي أن يصرف إليهم ما يرمّ خلّتهم ويسدّ حاجتهم‏.‏

ب - الّذين انتصبوا لإقامة أركان الدّين، وانقطعوا بسبب اشتغالهم واستقلالهم بها عن التّوصّل إلى ما يقيم أودهم ويسدّ خلّتهم، ولولا قيامهم بما لابسوه لتعطّلت أركان الإيمان، فعلى الإمام أن يكفيهم مؤنتهم، حتّى يسترسلوا فيما تصدّوا له، وهؤلاء هم القضاة والحكّام والقسّام والمفتون والمتفقّهون، وكلّ من يقوم بقاعدةٍ من قواعد الدّين يلهيه قيامه عمّا فيه سداده وقوامه‏.‏

3 - قوم يصرف إليهم طائفة من مال بيت المال على غناهم واستظهارهم، ولا يتوقّف استحقاقهم على سدّ حاجةٍ، وهم بنو هاشمٍ وبنو المطّلب، المسمّون في كتاب اللّه‏:‏ ‏(‏ذوي القربى‏)‏‏.‏

التّفاضل في العطاء بين أهل الدّيوان

5 - اختلف الصّحابة رضي الله عنهم في عطاء أهل الدّيوان‏:‏

فقد كان أبو بكرٍ الصّدّيق وعليّ رضي الله عنهما يريان التّسوية بين أهل الدّيوان في العطاء، ولا يريان التّفضيل بالسّابقة، وإلى هذا ذهب الشّافعيّ ومالك‏.‏

أمّا عمر بن الخطّاب وعثمان رضي الله عنهما فقد كانا يريان التّفضيل بالسّابقة في الإسلام، وزاد عمر التّفضيل بالقرابة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع السّابقة في الإسلام‏.‏ وأخذ بقولهما من الفقهاء أبو حنيفة وأحمد وفقهاء العراق‏.‏

وقد ناظر عمر أبا بكرٍ حين سوّى بين النّاس فقال‏:‏ ‏"‏ أتسوّي بين من هاجر الهجرتين وصلّى إلى القبلتين، ومن أسلم عام الفتح خوف السّيف‏؟‏ فقال له أبو بكرٍ‏:‏ إنّما عملوا للّه وأجورهم على اللّه، وإنّما الدّنيا دار بلاغٍ، فقال عمر‏:‏ لا أجعل من قاتل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه‏.‏ ‏"‏

علاقة أهل الدّيوان بالعاقلة

6 - الأصل في العاقلة هم‏:‏ من ينتصر بهم القاتل من قرابةٍ وعشيرةٍ، وعلى هذا جرى الأمر في صدر الإسلام، ثمّ مع كثرة الموالي وضعف الاهتمام بالانتساب للقبائل، اعتبر بعض الفقهاء من العاقلة‏:‏ ‏(‏الدّيوان‏)‏ وأهل الحرفة، وأهل السّوق، وغيرهما ممّا يتناصر به‏.‏ ولا خلاف أنّ النّساء والذّرّيّة - ممّن له حظّ في الدّيوان - وكذا المجنون لا شيء عليهم من الدّية‏.‏ واختلف الفقهاء هل على أهل الدّيوان دية أم لا‏؟‏‏.‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الدّية على أهل الدّيوان، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا مدخل لأهل الدّيوان في المعاقلة‏.‏ وينظر التّفصيل والخلاف في مصطلح ‏(‏عاقلةٍ‏)‏‏.‏

أهل الذّمّة

التّعريف

1 - الذّمّة في اللّغة‏:‏ الأمان والعهد، فأهل الذّمّة أهل العهد، والذّمّيّ‏:‏ هو المعاهد‏.‏ والمراد بأهل الذّمّة في اصطلاح الفقهاء الذّمّيّون، والذّمّيّ نسبة إلى الذّمّة، أي العهد من الإمام - أو ممّن ينوب عنه - بالأمن على نفسه وماله نظير التزامه الجزية ونفوذ أحكام الإسلام‏.‏ وتحصل الذّمّة لأهل الكتاب ومن في حكمهم بالعقد أو القرائن أو التّبعيّة، فيقرّون على كفرهم في مقابل الجزية، كما سيأتي تفصيله‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - أهل الكتاب‏:‏

2 - قال الحنفيّة والحنابلة‏:‏ أهل الكتاب هم‏:‏ اليهود والنّصارى ومن دان بدينهم، فيدخل في اليهود السّامرة، لأنّهم يدينون بالتّوراة ويعملون بشريعة موسى عليه السلام، ويدخل في النّصارى كلّ من دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى عليه السلام بالادّعاء والعمل بشريعته‏.‏ وقال الشّافعيّة والمالكيّة‏:‏ أهل الكتاب هم اليهود والنّصارى‏.‏

وأهل الذّمّة قد يكونون من أهل الكتاب، وقد يكونون من غيرهم كالمجوس، فالنّسبة بين أهل الذّمّة وأهل الكتاب‏:‏ أنّ كلّ واحدٍ منهما أعمّ من الآخر من وجهٍ، وأخصّ منه من وجهٍ آخر، فيجتمعان في الكتابيّ إذا كان من أهل الذّمّة‏.‏

ب - أهل الأمان ‏"‏ المستأمنون ‏"‏‏:‏

3 - المراد بالمستأمن عند الفقهاء‏:‏ من دخل دار الإسلام على أمانٍ مؤقّتٍ من قبل الإمام أو أحد المسلمين، على تفصيلٍ يذكر في مصطلحه، وعلى ذلك فالفرق بينه وبين أهل الذّمّة‏:‏ أنّ الأمان لأهل الذّمّة مؤبّد، وللمستأمنين مؤقّت‏.‏

ج - أهل الحرب‏:‏

4 - المراد بأهل الحرب‏:‏ الكفّار من أهل الكتاب والمشركين الّذين امتنعوا عن قبول دعوة الإسلام، ولم يعقد لهم عقد ذمّةٍ ولا أمانٍ، ويقطنون في دار الحرب الّتي لا تطبّق فيها أحكام الإسلام‏.‏ فهم أعداء المسلمين الّذين يعلن عليهم الجهاد مرّةً أو مرّتين كلّ عامٍ‏.‏

وتفصيله في مصطلحه‏.‏

ما يكون به غير المسلم ذمّيّاً

5 - يصير غير المسلم ذمّيّاً بالعقد، أو بقرائن معيّنةٍ تدلّ على رضاه بالذّمّة، أو بالتّبعيّة لغيره، أو بالغلبة والفتح‏.‏ وفيما يأتي تفصيل هذه الحالات‏:‏

أوّلاً ‏:‏ عقد الذّمّة

6 - عقد الذّمّة‏:‏ إقرار بعض الكفّار على كفره بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام الدّنيويّة، والغرض منه‏:‏ أن يترك الذّمّيّ القتال، مع احتمال دخوله الإسلام عن طريق مخالطته بالمسلمين، ووقوفه على محاسن الدّين‏.‏ فكان عقد الذّمّة للدّعوة إلى الإسلام، لا للرّغبة أو الطّمع فيما يؤخذ منهم من الجزية‏.‏ وينعقد هذا العقد بإيجابٍ وقبولٍ باللّفظ، أو ما يقوم مقامه، ولا تشترط كتابته كما هو الشّأن في سائر العقود، ومع هذا فكتابة العقد أمر مستحسن لأجل الإثبات، ودفعاً لمضرّة الإنكار والجحود‏.‏

من يتولّى إبرام العقد

7 - جمهور الفقهاء‏:‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ عقد الذّمّة مع غير المسلم يتولّى إبرامه الإمام أو نائبه، فلا يصحّ من غيرهما، لأنّ ذلك يتعلّق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة، ولأنّ عقد الذّمّة عقد مؤبّد، فلم يجز أن يفتات به على الإمام‏.‏

وأجاز ذلك الحنفيّة لكلّ مسلمٍ، لأنّ عقد الذّمّة خلف عن الإسلام، فهو بمنزلة الدّعوة إليه، ولأنّه مقابل الجزية، فتتحقّق فيه المصلحة، ولأنّه مفروض عند طلبهم له، وفي انعقاده إسقاط الفرض عن الإمام وعامّة المسلمين، فيجوز لكلّ مسلمٍ‏.‏

من يصحّ له عقد الذّمّة

8 - اتّفق الفقهاء على جواز عقد الذّمّة لأهل الكتاب والمجوس، كما اتّفقوا على عدم جوازه للمرتدّ‏.‏ أمّا فيما عدا ذلك فقد اختلفوا‏:‏

فقال الشّافعيّة والحنابلة في المشهور عندهم‏:‏ لا يجوز عقد الذّمّة لغير أهل الكتاب والمجوس، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقْتُلوا المشركين حيثُ وجَدْتموهم‏}‏ وهذا عامّ خصّ منه أهل الكتاب بآية الجزية في سورة التّوبة، وخصّ منهم المجوس بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «سُنُّوا بهم سنّةَ أهل الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏» فمن عداهم من الكفّار يبقى على بقيّة العموم‏.‏

وقال الحنفيّة، وهو رواية عند المالكيّة، ورواية عن أحمد‏:‏ يجوز عقد الذّمّة لجميع الكفّار، إلاّ عبدة الأوثان من العرب، لأنّ عقد الذّمّة لرجاء الإسلام عن طريق المخالطة بالمسلمين والوقوف على محاسن الدّين، وهذا لا يحصل بعقد الذّمّة مع مشركي العرب، لأنّ القرآن نزل بلغتهم، وحملوا الرّسالة، فليس لهم أدنى شبهةٍ في رفضهم الإيمان باللّه ورسوله، فتعيّن السّيف داعياً لهم إلى الإسلام، ولهذا لم يقبل رسول اللّه منهم الجزية‏.‏

وفي المشهور عند المالكيّة‏:‏ يجوز عقد الذّمّة لجميع أصناف الكفّار، لا فرق بين كتابيٍّ وغيره، ولا فرق بين وثنيٍّ عربيٍّ، ووثنيٍّ غير عربيٍّ‏.‏

شروط عقد الذّمّة

9 - جمهور الفقهاء على أنّه يشترط في عقد الذّمّة أن يكون مؤبّداً، لأنّ عقد الذّمّة في إفادة العصمة كالخلف عن عقد الإسلام، وعقد الإسلام لا يصحّ إلاّ مؤبّداً، فكذا عقد الذّمّة‏.‏ وفي قولٍ عند الشّافعيّة يصحّ مؤقّتاً‏.‏

وكذلك يشترط في هذا العقد قبول والتزام أحكام الإسلام في غير العبادات، من حقوق الآدميّين في المعاملات وغرامة المتلفات، وكذا ما يعتقدون تحريمه كالزّنى والسّرقة، كما يشترط في حقّ الرّجال منهم قبول بذل الجزية كلّ عامٍ‏.‏

10- وذكر بعض الفقهاء شروطاً أخرى لم يذكرها الآخرون‏.‏

قال الماورديّ من الشّافعيّة‏:‏ يشترط عليهم ستّة أشياء‏:‏

1 - ألاّ يذكروا كتاب اللّه تعالى بطعنٍ ولا تحريفٍ له‏.‏

2 - وألاّ يذكروا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بتكذيبٍ له ولا ازدراءٍ‏.‏

3 - وألاّ يذكروا دين الإسلام بذمٍّ له ولا قدحٍ فيه‏.‏

4 - وألاّ يصيبوا مسلمةً بزنًى ولا باسم نكاحٍ‏.‏

5 - وألاّ يفتنوا مسلماً عن دينه ولا يتعرّضوا لماله‏.‏

6 - وألاّ يعينوا أهل الحرب ولا يؤووا للحربيّين عيناً ‏(‏جاسوساً‏)‏‏.‏

قال الماورديّ‏:‏ فهذه حقوق ملتزمة، فتلزمهم بغير شرطٍ، وإنّما تشترط إشعاراً لهم وتأكيداً لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابها بعد الشّرط نقضاً لعهدهم‏.‏ ومثله ما ذكره أبو يعلى من الحنابلة‏.‏ وإنّما لم يذكرها الآخرون لدخولها في شرط التزام أحكام الإسلام‏.‏

11 - هذا، وزاد بعضهم شروطاً أخرى كاستضافة المسلمين، وعدم إظهار منكرٍ في دار الإسلام وغيرها، واختلفوا في وجوب أو استحباب اشتراط هذا النّوع من الشّروط، وجملة ذلك أنّه ينبغي للإمام عند العقد أن يشترط عليهم شروطاً نحو ما شرطه عمر رضي الله عنه، وقد رويت عن عمر رضي الله عنه في ذلك أخبار، منها ما رواه الخلّال بإسناده عن إسماعيل بن عيّاشٍ قال‏:‏ حدّثنا غير واحدٍ من أهل العلم، قالوا‏:‏ كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرّحمن بن غنمٍ‏:‏ أنّا حين قدمنا من بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملّتنا، على أنّا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا كنيسةً ولا فيما حولها ديراً ولا قلايةً ولا صومعة راهبٍ ولا نجدّد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في اللّيل والنّهار، وأن نوسّع أبوابها للمارّة وابن السّبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألاّ نكتم أمر من غشّ المسلمين، وألاّ نضرب نواقيسنا إلاّ ضرباً خفيّاً في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصّلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق المسلمين، وألاّ نخرج باعوثاً ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا، ولا نظهر النّيران معهم في أسواق المسلمين، وألاّ نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور، ولا نظهر شركاً، ولا نرغّب في ديننا ولا ندعو إليه أحداً، ولا نتّخذ شيئاً من الرّقيق الّذين جرت عليهم سهام المسلمين، وألاّ نمنع أحداً من أقربائنا إذا أراد الدّخول في الإسلام، وأن نلزم زيّنا حيثما كنّا، وألاّ نتشبّه بالمسلمين في لبس قلنسوةٍ ولا عمامةٍ ولا نعلين ولا فرق شعرٍ ولا في مراكبهم، ولا نتكلّم بكلامهم، وألاّ نتكنّى بكناهم، وأن نجزّ مقادم رءوسنا، ولا نفرّق نواصينا، ونشدّ الزّنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربيّة، ولا نركب السّروج، ولا نتّخذ شيئاً من السّلاح، ولا نحمله، ولا نتقلّد السّيوف، وأن نوقّر المسلمين في مجالسهم، ونرشد الطّريق، ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس، ولا نطّلع عليهم في منازلهم، ولا نعلّم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منّا مسلماً في تجارةٍ إلاّ أن يكون إلى المسلم أمر التّجارة، وأن نضيّف كلّ مسلمٍ عابر سبيلٍ ثلاثة أيّامٍ، ونطعمه من أوسط ما نجد، ضمّنا ذلك على أنفسنا وذراريّنا وأزواجنا ومساكننا، وإن نحن غيّرنا أو خالفنا عمّا شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمّة لنا، وقد حلّ لك منّا ما يحلّ لأهل المعاندة والشّقاق‏.‏ فكتب بذلك عبد الرّحمن بن غنمٍ إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فكتب لهم عمر‏:‏ أن أمض لهم ما سألوه‏.‏

ولا شكّ أنّ بعض هذه الشّروط واجب، وينقض بمخالفته عقد الذّمّة كما سيأتي‏.‏

ثانياً‏:‏ حصول الذّمّة بالقرائن

وهو أنواع‏:‏

أ - الإقامة في دار الإسلام‏:‏

12 - الأصل أنّ غير المسلم الّذي لم يحصل على الذّمّة لا يمكّن من الإقامة الدّائمة في دار الإسلام، وإنّما يمكّن من الإقامة اليسيرة بالأمان المؤقّت، ويسمّى صاحب الأمان ‏(‏المستأمن‏)‏، وجمهور الفقهاء‏:‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ مدّة الإقامة في دار الإسلام للمستأمن لا تبلغ سنةً، فإذا أقام فيها سنةً كاملةً أو أكثر تفرض عليه الجزية ويصير بعدها ذمّيّاً‏.‏ فطول إقامة غير المسلمين قرينة على رضاهم بالإقامة الدّائمة وقبولهم شروط أهل الذّمّة‏.‏ هذا، وقد فصّل فقهاء الحنفيّة في هذا الموضوع فقالوا‏:‏ الأصل أنّ الحربيّ إذا دخل دار الإسلام بأمانٍ ينبغي للإمام أن يتقدّم إليه، فيضرب له مدّةً معلومةً، على حسب ما يقتضيه رأيه، ويقول له‏:‏ إن جاوزت المدّة جعلتك من أهل الذّمّة، فإذا جاوزها صار ذمّيّاً، فإذا أقام سنةً من يوم ما قال له الإمام أخذت منه الجزية‏.‏

وإذا لم يضرب له مدّةً قال أكثر الحنفيّة‏:‏ يصير ذمّيّاً بإقامته سنةً، وقال بعضهم‏:‏ إن أقام المستأمن، فأطال المقام أمر بالخروج، فإن أقام بعد ذلك حولاً وضعت عليه الجزية، وعلى هذا فاعتبار السّنة من تاريخ إنذار الإمام له بالخروج، فلو أقام سنين من غير أن يتقدّم إليه الإمام بالخروج، فله الرّجوع إلى دار الحرب، ولا يصير ذمّيّاً‏.‏

ولم نجد نصّاً للمالكيّة في تقدير مدّة الأمان للمستأمن وصيرورته ذمّيّاً‏.‏

ب - زواج الحربيّة من المسلم أو الذّمّيّ‏:‏

13 - صرّح الحنفيّة بأنّ الحربيّة المستأمنة إذا تزوّجت مسلماً أو ذمّيّاً فقد توطّنت وصارت ذمّيّةً، لأنّ المرأة في المسكن تابعة للزّوج، ألا ترى أنّها لا تملك الخروج إلاّ بإذنه، فجعلها نفسها تابعةً لمن هو في دارنا رضًى بالتّوطّن في دارنا على التّأبيد، ورضاها بذلك دلالة كالرّضى بطريق الإفصاح، فلهذا صارت ذمّيّةً‏.‏ بخلاف المستأمن إذا تزوّج ذمّيّةً، لأنّ الزّوج لا يكون تابعاً لامرأته في المقام، فزواجه من الذّمّيّة لا يدلّ على رضاه بالبقاء في دار الإسلام، فلا يصير ذمّيّاً‏.‏

وأمّا الحنابلة، فالظّاهر أنّهم خالفوا الحنفيّة في هذا الحكم، قال صاحب المغني‏:‏ إذا دخلت الحربيّة إلينا بأمانٍ، فتزوّجت ذمّيّاً في دارنا، ثمّ أرادت الرّجوع لم تمنع إذا رضي زوجها أو فارقها، وقال أبو حنيفة‏:‏ تمنع‏.‏ ولم نعثر في كتب المالكيّة والشّافعيّة على هذا الحكم‏.‏

ج - شراء الأراضي الخراجيّة‏:‏

14 - قرّر الحنفيّة أنّ المستأمن إذا اشترى أرضاً خراجيّةً في دار الإسلام فزرعها، يوضع عليه خراج الأرض ويصير ذمّيّاً، لأنّ وظيفة الخراج تختصّ بالمقام في دار الإسلام، فإذا قبلها فقد رضي بكونه من أهل دار الإسلام فيصير ذمّيّاً‏.‏ ولو باعها قبل أن يجبي خراجها لا فيصير ذمّيّاً، لأنّ دليل قبول الذّمّة وجوب الخراج لا نفس الشّراء، فما لم يوضع عليه الخراج لا يصير ذمّيّاً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنّما يصير ذمّيّاً بشرط تنبيهه على أنّه في حالة عدم بيعه الأرض ورجوعه إلى بلاده سيكون ذمّيّاً، إذ لا يصحّ جعله ذمّيّاً بلا رضًى منه أو قرينةٍ معتبرةٍ تكشف عن رضاه‏.‏ هذا، ولم نجد لسائر الفقهاء رأياً في هذه المسألة‏.‏

ثالثاً - صيرورته ذمّيّاً بالتّبعيّة‏:‏

15 - هناك حالات يصير فيها غير المسلم ذمّيّاً تبعاً لغيره، لعلاقةٍ بينهما تستوجب هذه التّبعيّة في الذّمّة منها‏:‏

أ - الأولاد الصّغار والزّوجة‏:‏

16 - صرّح جمهور الفقهاء‏:‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الأولاد الصّغار يدخلون في الذّمّة تبعاً لآبائهم أو أمّهاتهم إذا دخلوا في الذّمّة، لأنّ عقد الذّمّة فيه التزام أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات، والصّغير في مثل هذا يتبع خير الوالدين، كما علّله الحنفيّة، وهذا ما يفهم من كلام المالكيّة، حيث قالوا‏.‏ لا تعقد الذّمّة إلاّ لكافرٍ حرٍّ بالغٍ ذكرٍ، فأمّا المرأة والعبد والصّبيّ فهم أتباع‏.‏

واذا بلغ صبيان أهل الذّمّة تؤخذ منهم الجزية دون حاجةٍ إلى عقدٍ جديدٍ، وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو وجه عند الشّافعيّة، لأنّه لم يأت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من خلفائه تجديد العقد لهؤلاء ولأنّهم تبعوا الأب في الأمان، فتبعوه في الذّمّة‏.‏ والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه يستأنف له عقد الذّمّة، لأنّ العقد الأوّل كان للأب دونه، فعلى هذا جزيته على ما يقع عليه التّراضي‏.‏ ومثل هذا الحكم أنّ التّبعيّة في الذّمّة يجري على الزّوجة عند الحنفيّة، فإنّهم قالوا‏:‏ لو أنّ زوجين مستأمنين دخلا دار الإسلام بالأمان، أو تزوّج مستأمن مستأمنةً في دارنا ثمّ صار الرّجل ذمّيّاً، أو دخلت حربيّة دار الإسلام بأمانٍ فتزوّجت ذمّيّاً، صارت ذمّيّةً تبعاً للزّوج، لأنّ المرأة في المقام تابعة لزوجها‏.‏

ب - اللّقيط‏:‏

17 - إذا وجد اللّقيط في مكان أهل الذّمّة، كقريتهم أو بيعةٍ أو كنيسةٍ يعتبر ذمّيّاً تبعاً لهم، ولو التقطه مسلم في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة، وهو المشهور عند المالكيّة‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا وجد اللّقيط في دار الإسلام - وفيها أهل ذمّةٍ - أو بدارٍ فتحها المسلمون وأقرّوها بيد الكفّار صلحاً، أو أقرّوها بيدهم بعد ملكها بجزيةٍ وفيها مسلم - ولو واحداً - حكم بإسلام اللّقيط، لأنّه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليباً للإسلام‏.‏

وإن لم يكن فيما فتحوها مسلم فاللّقيط كافر‏.‏

رابعاً - الذّمّة بالغلبة والفتح‏:‏

18 - هذا النّوع من الذّمّة يتحقّق فيما إذا فتح المسلمون بلاداً غير إسلاميّةٍ، ورأى الإمام ترك أهل هذه البلاد أحراراً بالذّمّة، وضرب الجزية عليهم، كما فعل عمر بن الخطّاب في فتح سواد العراق‏.‏

حقوق أهل الذّمّة

19 - القاعدة العامّة في حقوق أهل الذّمّة‏:‏ أنّ لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهذه القاعدة جرت على لسان فقهاء الحنفيّة، وتدلّ عليها عبارات فقهاء المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة‏.‏ ويؤيّدها بعض الآثار عن السّلف، فقد روي عن عليّ بن أبي طالبٍ أنّه قال‏:‏‏"‏ إنّما قبلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا ‏"‏‏.‏

لكنّ هذه القاعدة غير مطبّقةٍ على إطلاقها، فالذّمّيّون ليسوا كالمسلمين في جميع الحقوق والواجبات، وذلك بسبب كفرهم وعدم التزامهم أحكام الإسلام‏.‏ وفيما يلي نذكر ما يتمتّع به أهل الذّمّة من الحقوق‏:‏

أوّلاً‏:‏ حماية الدّولة لهم

20 - يعتبر أهل الذّمّة من أهل دار الإسلام، لأنّ المسلمين حين أعطوهم الذّمّة فقد التزموا دفع الظّلم عنهم والمحافظة عليهم، وصاروا أهل دار الإسلام، كما صرّح الفقهاء بذلك‏.‏ وعلى ذلك فلأهل الذّمّة حقّ الإقامة آمنين مطمئنّين على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وعلى الإمام حمايتهم من كلّ من أراد بهم سوءاً من المسلمين أو أهل الحرب أو أهل الذّمّة، لأنّه التزم بالعهد حفظهم من الاعتداء عليهم، فيجب عليه الذّبّ عنهم، ومنع من يقصدهم بالأذى من المسلمين أو الكفّار، واستنقاذ من أسر منهم، واسترجاع ما أخذ من أموالهم، سواء كانوا مع المسلمين أم منفردين عنهم في بلدٍ لهم، لأنّهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم‏.‏ ومن مقتضيات عقد الذّمّة أنّ أهل الذّمّة لا يظلمون ولا يؤذون، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا من ظلم معاهداً أو انتَقَصَه حقّه، أو كلّفَهُ فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»‏.‏

حتّى إنّ الفقهاء صرّحوا بأنّ أهل الحرب إذا استولوا على أهل الذّمّة، فسبوهم وأخذوا أموالهم، ثمّ قدر عليهم، وجب ردّهم إلى ذمّتهم، ولم يجز استرقاقهم، وهذا في قول عامّة أهل العلم، كما قال صاحب المغني‏:‏ لأنّ ذمّتهم باقية، ولم يوجد منهم ما ينقضها، وحكم أموالهم حكم أموال المسلمين في حرمتها‏.‏

ثانياً‏:‏ حقّ الإقامة والتّنقّل

21 - لأهل الذّمّة أن يقيموا في دار الإسلام آمنين مطمئنّين على أنفسهم وأموالهم، ما لم يظهر منهم ما ينتقض به عهدهم، لأنّهم إنّما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا، والمسلمون على شروطهم‏.‏

لكنّ الفقهاء اتّفقوا على عدم جواز إقامة الذّمّيّ واستيطانه في مكّة والمدينة، على خلافٍ وتفصيلٍ فيما سواهما، ينظر في مصطلح ‏(‏أرض العرب‏)‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا يجتمع في أرض العرب دينان» ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لئن عشت - إن شاء اللّه - لأخرجنّ اليهود والنّصارى من جزيرة العرب»‏.‏

أمّا في غيرها من المدن والقرى في دار الإسلام فيجوز لأهل الذّمّة أن يسكنوا فيها مع المسلمين أو منفردين، لكن ليس لهم رفع بنائهم على المسلمين بقصد التّعلّي، وإذا لزم من سكناهم في المصر بين المسلمين تقليل الجماعة أمروا بالسّكنى في ناحيةٍ - خارج المصر - ليس فيها جماعة المسلمين إذا ظهرت المصلحة في ذلك‏.‏

22 - وأمّا حقّ التّنقّل فيتمتّع أهل الذّمّة به في دار الإسلام أينما يشاءون للتّجارة وغيرها، إلاّ أنّ في دخولهم مكّة والمدينة وأرض الحجاز تفصيل سبق بيانه في مصطلح ‏(‏أرض العرب‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ عدم التّعرّض لهم في عقيدتهم وعبادتهم

23 - إنّ من مقتضى عقد الذّمّة ألاّ يتعرّض المسلمون لأهل الذّمّة في عقيدتهم وأداء عبادتهم دون إظهار شعائرهم، فعقد الذّمّة إقرار الكفّار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملّة، وإذا كان هناك احتمال دخول الذّمّيّ في الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين ووقوفه على محاسن الدّين، فهذا يكون عن طريق الدّعوة لا عن طريق الإكراه، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لا إكراه في الدّين‏}‏، وفي كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل نجران‏:‏ «ولنجران وحاشيتها جوار اللّه وذمّة محمّدٍ رسول اللّه على أموالهم وملّتهم وبيعهم وكلّ ما تحت أيديهم‏.‏‏.‏‏.‏» وهذا الأصل متّفق عليه بين الفقهاء، لكن هناك تفصيل وخلاف في بعض الفروع نذكره فيما يلي‏:‏

أ - معابد أهل الذّمّة‏:‏

24 - قسّم الفقهاء أمصار المسلمين على ثلاثة أقسامٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ ما اختطّه المسلمون وأنشئوه كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط، فلا يجوز فيه إحداث كنيسةٍ ولا بيعةٍ ولا مجتمعٍ لصلاتهم ولا صومعةٍ بإجماع أهل العلم، ولا يمكّنون فيه من شرب الخمر واتّخاذ الخنازير وضرب النّاقوس، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تبنى كنيسة في دار الإسلام، ولا يجدّد ما خرب منها» ولأنّ هذا البلد ملك للمسلمين فلا يجوز أن يبنوا فيه مجامع للكفر، ولو عاقدهم الإمام على التّمكّن من ذلك فالعقد باطل‏.‏

الثّاني‏:‏ ما فتحه المسلمون عنوةً، فلا يجوز فيه إحداث شيءٍ من ذلك بالاتّفاق، لأنّه صار ملكاً للمسلمين، وما كان فيه شيء من ذلك هل يجب هدمه‏؟‏ قال المالكيّة‏:‏ وهو وجه عند الحنابلة‏:‏ لا يجب هدمه، لأنّ الصّحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيراً من البلاد عنوةً فلم يهدموا شيئاً من الكنائس‏.‏

ويشهد لصحّة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد الّتي فتحها المسلمون عنوةً، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله‏:‏‏"‏ ألاّ يهدموا بيعةً ولا كنيسةً ولا بيت نارٍ ‏"‏‏.‏

وفي الأصحّ عند الشّافعيّة، وهو وجه عند الحنابلة‏:‏ يجب هدمه، فلا يقرّون على كنيسةٍ كانت فيه، لأنّها بلاد مملوكة للمسلمين، فلم يجز أن تكون فيها بيعة، كالبلاد الّتي اختطّها المسلمون‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّها لا تهدم، ولكن تبقى بأيديهم مساكن، ويمنعون من اتّخاذها للعبادة‏.‏

الثّالث‏:‏ ما فتحه المسلمون صلحاً، فإن صالحهم الإمام على أنّ الأرض لهم والخراج لنا، فلهم إحداث ما يحتاجون إليه فيها من الكنائس عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، لأنّ الملك والدّار لهم، فيتصرّفون فيها كيف شاءوا‏.‏ وفي مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ المنع، لأنّ البلد تحت حكم الإسلام‏.‏

وإن صالحهم على أنّ الدّار لنا، ويؤدّون الجزية، فالحكم في الكنائس على ما يقع عليه الصّلح، والأولى ألاّ يصالحهم إلاّ على ما وقع عليه صلح عمر رضي الله عنه من عدم إحداث شيءٍ منها‏.‏ وإن وقع الصّلح مطلقاً، لا يجوز الإحداث عند الجمهور‏:‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، ويجوز في بلدٍ ليس فيه أحد من المسلمين عند المالكيّة‏.‏

ولا يتعرّض للقديمة عند الحنفيّة والحنابلة، وهو المفهوم من كلام المالكيّة، والأصحّ عند الشّافعيّة المنع من إبقائها كنائس‏.‏

ب - إجراء عباداتهم‏:‏

25 - الأصل في أهل الذّمّة تركهم وما يدينون، فيقرّون على الكفر وعقائدهم وأعمالهم الّتي يعتبرونها من أمور دينهم، كضرب النّاقوس خفيفاً في داخل معابدهم، وقراءة التّوراة والإنجيل فيما بينهم، ولا يمنعون من ارتكاب المعاصي الّتي يعتقدون بجوازها، كشرب الخمر، واتّخاذ الخنازير وبيعها، أو الأكل والشّرب في نهار رمضان، وغير ذلك فيما بينهم، أو إذا انفردوا بقريةٍ‏.‏ ويشترط في جميع هذا ألاّ يظهروها ولا يجهروا بها بين المسلمين، وإلاّ منعوا وعزّروا، وهذا باتّفاق المذاهب، فقد جاء في شروط أهل الذّمّة لعبد الرّحمن بن غنمٍ‏:‏ ‏"‏ ألاّ نضرب ناقوساً إلاّ ضرباً خفيّاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصّلاة ولا القراءة في كنائسنا، ولا نظهر صليباً ولا كتاباً في سوق المسلمين ‏"‏ إلخ‏.‏

هذا، وقد فصّل بعض الحنفيّة بين أمصار المسلمين وبين القرى، فقالوا‏:‏ لا يمنعون من إظهار شيءٍ من بيع الخمر والخنزير والصّليب وضرب النّاقوس في قريةٍ، أو موضعٍ ليس من أمصار المسلمين، ولو كان فيه عدد كثير من أهل الإسلام، وإنّما يكره ذلك في أمصار المسلمين، وهي الّتي تقام فيها الجمع والأعياد والحدود، لأنّ المنع من إظهار هذه الأشياء لكونه إظهار شعائر الكفر في مكان إظهار شعائر الإسلام، فيختصّ المنع بالمكان المعدّ لإظهار الشّعائر، وهو المصر الجامع‏.‏

وفصّل الشّافعيّة بين القرى العامّة والقرى الّتي ينفرد بها أهل الذّمّة، فلا يمنعون في الأخيرة من إظهار عباداتهم‏.‏

رابعاً‏:‏ اختيار العمل

26 - يتمتّع الذّمّيّ باختيار العمل الّذي يراه مناسباً للتّكسّب، فيشتغل بالتّجارة والصّناعة كما يشاء، فقد صرّح الفقهاء أنّ الذّمّيّ في المعاملات كالمسلم، هذا هو الأصل، وهناك استثناءات في هذا المجال ستأتي في بحث ما يمنع منه الذّمّيّون‏.‏

أمّا الأشغال والوظائف العامّة، فما يشترط فيه الإسلام كالخلافة، والإمارة على الجهاد، والوزارة وأمثالها، فلا يجوز أن يعهد بذلك إلى ذمّيٍّ، وما لا يشترط فيه الإسلام كتعليم الصّغار الكتابة، وتنفيذ ما يأمر به الإمام أو الأمير، يجوز أن يمارسه الذّمّيّون‏.‏

وتفصيل هذه الوظائف في مصطلحاتها‏.‏ وانظر كذلك مصطلح‏:‏ ‏(‏استعانةٍ‏)‏‏.‏

المعاملات الماليّة لأهل الذّمّة

27 - القاعدة العامّة أنّ أهل الذّمّة في المعاملات كالبيوع والإجارة وسائر التّصرّفات الماليّة كالمسلمين - إلاّ ما استثني من المعاملة بالخمر والخنزير ونحوهما كما سيأتي -‏.‏

وذلك لأنّ الذّمّيّ ملتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات الماليّة، فيصحّ منهم البيع والإجارة والمضاربة والمزارعة ونحوها من العقود والتّصرّفات الّتي تصحّ من المسلمين، ولا تصحّ منهم عقود الرّبا والعقود الفاسدة والمحظورة الّتي لا تصحّ من المسلمين، كما صرّح به فقهاء المذاهب‏.‏

قال الجصّاص من الحنفيّة‏:‏ إنّ الذّمّيّين في المعاملات والتّجارات كالبيوع وسائر التّصرّفات كالمسلمين، ومثله ما قاله الإمام السّرخسيّ في المبسوط، وصرّح به الكاسانيّ في البدائع حيث قال‏:‏ كلّ ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذّمّة، وما يبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل ويفسد من بيوعهم، إلاّ الخمر والخنزير‏.‏

بل إنّ الشّافعيّة صرّحوا ببطلان بيع الخمر والخنزير بينهم أيضاً قبل القبض‏.‏ وكلام المالكيّة والحنابلة أيضاً يدلّ على صحّة هذه القاعدة في الجملة، لأنّ أهل الذّمّة من أهل دار الإسلام، وملتزمون أحكام الإسلام في المعاملات‏.‏ قال الإمام الشّافعيّ في الأمّ‏:‏ تبطل بينهم البيوع الّتي تبطل بين المسلمين كلّها، فإذا مضت واستهلكت لم نبطلها وقال‏:‏ فإن جاء رجلان منهم قد تبايعا خمراً ولم يتقابضاها أبطلنا البيع، وإن تقابضاها لم نردّه، لأنّه قد مضى‏.‏

إلاّ أنّ هناك ما يستثنى من هذه القاعدة نجمله فيما يلي‏:‏

أ - المعاملة بالخمر والخنزير‏:‏

28 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا تجوز المعاملة بالخمر والخنزير بين المسلمين مطلقاً، لأنّهما لا يعتبران مالاً متقوّماً عند المسلمين، وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «ألا إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والخنزير والميتة والأصنام»، لكنّهم أقرّوا المعاملة بالخمر والخنزير بين أهل الذّمّة، بنحو شربٍ أو بيعٍ أو هبةٍ أو مثلها، بشرط عدم الإظهار، لأنّ مقتضى عقد الذّمّة‏:‏ أن يقرّ الذّمّيّ على الكفر مقابل الجزية، ويترك هو وشأنه فيما يعتقده من الحلّ والحرمة، والمعاملة بالخمر والخنزير ممّا يعتقد جوازها‏.‏

وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء في الجملة‏.‏ ويستدلّ الحنفيّة لذلك بقولهم‏:‏ إنّ الخمر والخنزير مال متقوّم في حقّهم، كالخلّ والشّاة للمسلمين، فيجوز بيعه، وروي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه كتب إلى عُشّاره بالشّام‏:‏‏"‏ أن ولّوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها، ولو لم يجز بيع الخمر منهم لما أمرهم بتوليتهم البيع ‏"‏‏.‏

ب - ضمان الإتلاف‏:‏

29 - إذا أتلف الخمر والخنزير لمسلمٍ فلا ضمان اتّفاقاً، لعدم تقوّمهما في حقّ المسلمين‏.‏ وكذلك إتلافهما لأهل الذّمّة عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ ما لا يكون مضموناً في حقّ المسلم لا يكون مضموناً في حقّ غيره‏.‏

لكنّ الحنفيّة صرّحوا بضمان متلفهما لأهل الذّمّة، لأنّهما مال متقوّم في حقّهم، وبهذا قال المالكيّة، إذا لم يظهر الذّمّيّ الخمر والخنزير، وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏ضمان‏)‏‏.‏

ج - استئجار الذّمّيّ مسلماً للخدمة‏:‏

30 - تجوز معاملة الإيجار والاستئجار بين المسلمين وأهل الذّمّة في الجملة، لكنّه إذا استأجر الذّمّيّ مسلماً لإجراء عملٍ، فإذا كان العمل الّذي يؤاجر المسلم للقيام به ممّا يجوز لنفسه كالخياطة والبناء والحرث فلا بأس به، أمّا إذا كان لا يجوز له أن يعمله كعصر الخمور ورعي الخنازير ونحو ذلك فلا يجوز‏.‏

وقال بعض الفقهاء‏:‏ لا يجوز استئجار المسلم لخدمة الذّمّيّ الشّخصيّة، لما فيه من إذلال المسلم لخدمة الكافر‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏إجارةٍ‏)‏

د - وكالة الذّمّيّ في نكاح المسلمة‏:‏

31 - لا يصحّ أن يوكّل مسلم كافراً في عقد النّكاح له من مسلمةٍ عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ الذّمّيّ لا يملك عقد هذا النّكاح لنفسه فلا يجوز وكالته‏.‏

وقال الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ تصحّ هذه الوكالة، لأنّ الشّرط لصحّة الوكالة‏:‏ أن يكون الموكّل ممّن يملك فعل ما وكّل به، وأن يكون الوكيل عاقلاً، مسلماً كان أو غير مسلمٍ‏.‏

هـ – عدم تمكين الذّمّيّ من شراء المصحف وكتب الحديث‏:‏

32 - لا يجوز تمكين الذّمّيّ من شراء المصحف أو دفترٍ فيه أحاديث عند جمهور الفقهاء ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ لأنّ ذلك قد يؤدّي إلى ابتذاله‏.‏

ولم نعثر في كتب الحنفيّة على ما يمنع ذلك، إلاّ أنّ أبا حنيفة وأبا يوسف يمنعان الذّمّيّ من مسّ المصحف، وجوّزه محمّد إذا اغتسل لذلك‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏مصحف‏)‏‏.‏

و - شهادة أهل الذّمّة‏:‏

33 - لا تقبل شهادة أهل الذّمّة على المسلمين اتّفاقاً، إلاّ في الوصيّة في السّفر إذا لم يوجد غيرهم عند الحنابلة‏.‏ ويعلّل الفقهاء عدم قبول الشّهادة منهم بأنّ الشّهادة فيها معنى الولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم‏.‏

كذلك لا تقبل شهادة أهل الذّمّة بعضهم على بعضٍ عند جمهور الفقهاء‏:‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم‏}‏، والكافر ليس بذي عدلٍ‏.‏ وأجازها الحنفيّة وإن اختلفت مللهم، ما داموا عدولاً في دينهم، لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الذّمّة بعضهم على بعضٍ» ولأنّ بعضهم أولياء بعضٍ، فتقبل شهادة بعضهم على بعضٍ‏.‏ هذا، وهناك استثناءات أخرى في مسائل الوصيّة وإثبات الشّفعة والتّملّك بإحياء الموات ونحوها، تنظر في مصطلحاتها وفي مظانّها من كتب الفقه‏.‏

أنكحة أهل الذّمّة وما يتعلّق بها

34 - لا يختلف أحكام نكاح أهل الذّمّة عن غيرهم من أهل الكتاب وسائر الكفّار، إلاّ أنّه يجوز للمسلم أن يتزوّج كتابيّةً‏.‏

ولا يجوز زواج المسلمة من غير المسلم، ولو كان ذمّيّاً أو كتابيّاً‏.‏ وذلك باتّفاق الفقهاء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُنْكِحُوا المشركينَ حتّى يُؤْمنوا‏}‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تَرْجِعوهنّ إلى الكفّار لا هُنّ حِلٌّ لهم ولا هم يَحِلُّون لهنّ‏}‏ ولا يجوز زواج مسلمٍ من ذمّيّةٍ غير كتابيّةٍ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَنْكِحوا المشركاتِ حتّى يُؤْمِنّ‏}‏ ويجوز للمسلم أن يتزوّج ذمّيّةً، إذا كانت كتابيّةً كاليهوديّة والنّصرانيّة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أُحِلّ لكم الطّيّباتُ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمحصناتُ من الّذين أُوتوا الكتابَ من قبلكم‏}‏ وتفصيل ذلك في النّكاح وغيره‏.‏

واجبات أهل الذّمّة الماليّة

35 - على أهل الذّمّة واجبات وتكاليف ماليّة يلتزمون بها قبل الدّولة الإسلاميّة مقابل ما يتمتّعون به من الحماية والحقوق، وهذه الواجبات عبارة عن الجزية والخراج والعشور، وفيما يلي نجمل أحكامها‏:‏

أ - الجزية‏:‏ وهي المال الّذي تعقد عليه الذّمّة لغير المسلم لأمنه واستقراره، تحت حكم الإسلام وصونه‏.‏ وتؤخذ كلّ سنةٍ من العاقل البالغ الذّكر، ولا تجب على الصّبيان والنّساء والمجانين اتّفاقاً، كما يشترط في وجوبها‏:‏ السّلامة من الزّمانة والعمى والكبر عند جمهور الفقهاء‏.‏ وفي مقدارها ووقت وجوبها وما تسقط به الجزية وغيرها من الأحكام تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏جزية‏)‏‏.‏

ب - الخراج‏:‏ وهو ما وضع على رقاب الأرض من حقوقٍ تؤدّى عنها‏.‏

وهو إمّا أن يكون خراج الوظيفة الّذي يفرض على الأرض بالنّسبة إلى مساحتها ونوع زراعتها، وإمّا أن يكون خراج المقاسمة الّذي يفرض على الخارج من الأرض كالخمس أو السّدس أو نحو ذلك، كما هو مبيّن في مصطلح‏:‏ ‏(‏خراج‏)‏‏.‏

ج - العشور‏:‏ وهي الّتي تفرض على أموال أهل الذّمّة المعدّة للتّجارة، إذا انتقلوا بها من بلدٍ إلى بلدٍ داخل دار الإسلام، ومقدارها نصف العشر، وتؤخذ مرّةً واحدةً في السّنة حين الانتقال عند جمهور الفقهاء، خلافاً للمالكيّة حيث أوجبوها في كلّ مرّةٍ ينتقلون بها‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏عشرٍ‏)‏‏.‏

ما يمنع منه أهل الذّمّة

36 - يجب على أهل الذّمّة الامتناع عمّا فيه غضاضة على المسلمين، وانتقاص دين الإسلام، مثل ذكر اللّه سبحانه وتعالى أو كتابه أو رسوله أو دينه بسوءٍ لأنّ إظهار هذه الأفعال استخفاف بالمسلمين وازدراء بعقيدتهم‏.‏

وعدم التزام الذّمّيّ بما ذكر يؤدّي إلى انتقاض ذمّته عند جمهور الفقهاء، خلافاً للحنفيّة، كما سيأتي في بحث ما ينتقض به عهد الذّمّة‏.‏

كذلك يمنع أهل الذّمّة من إظهار بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، أو إدخالها فيها على وجه الشّهرة والظّهور‏.‏ ويمنعون كذلك من إظهار فسقٍ يعتقدون حرمته كالفواحش ونحوها‏.‏ ويؤخذ أهل الذّمّة بالتّمييز عن المسلمين في زيّهم ومراكبهم وملابسهم، ولا يصدّرون في مجالس، وذلك إظهاراً للصّغار عليهم، وصيانةً لضعفة المسلمين عن الاغترار بهم أو موالاتهم‏.‏ وتفصيل ما يميّز به أهل الذّمّة عن المسلمين في الزّيّ والملبس والمركب وغيرها من المسائل تنظر في كتب الفقه، عند الكلام عن الجزية وعقد الذّمّة‏.‏

جرائم أهل الذّمّة وعقوباتهم

أوّلاً - ما يختصّ بأهل الذّمّة في الحدود‏:‏

37 - إذا ارتكب أحد من أهل الذّمّة جريمةً من جرائم الحدود، كالزّنى أو القذف أو السّرقة أو قطع الطّريق، يعاقب بالعقاب المحدّد لهذه الجرائم شأنهم في ذلك شأن المسلمين، إلاّ شرب الخمر حيث لا يتعرّض لهم فيه، لما يعتقدون من حلّها، ومراعاةً لعهد الذّمّة، إلاّ إن أظهروا شربها، فيعزّرون، وهذا عند جمهور الفقهاء في الجملة، إلاّ أنّ هناك بعض الأحكام يختصّ بها أهل الذّمّة نجملها فيما يأتي‏:‏

أ - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف إلى المساواة في تطبيق عقوبة الرّجم على الذّمّيّ والمسلم، ولو كان متزوّجاً من ذمّيّةٍ، لعموم النّصوص في تطبيق هذه العقوبة، ولما ورد «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر برجم يهوديّين»‏.‏

وصرّح أبو حنيفة ومالك بأنّ الزّاني من أهل الذّمّة إذا كان متزوّجاً لا يرجم، لاشتراط الإسلام في تطبيق الرّجم عندهما، وكذلك المسلم المتزوّج بالكتابيّة لا يرجم عند أبي حنيفة، لأنّه يشترط في الإحصان‏:‏ الإسلام والزّواج من مسلمةٍ مستدلّاً بما «قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحذيفة حين أراد أن يتزوّج يهوديّةً‏:‏ دعها فإنّها لا تحصنك»،

ب - لا حدّ على من قذف أحداً من أهل الذّمّة، بل يعزّر، سواء كان القاذف مسلماً أم من أهل الذّمّة، لأنّه يشترط في القذف أن يكون المقذوف مسلماً، وهذا باتّفاق الفقهاء‏.‏

ج - يطبّق حدّ السّرقة على السّارق المسلم أو الذّمّيّ، سواء أكان المسروق منه مسلماً أم من أهل الذّمّة اتّفاقاً، إلاّ إذا كان المسروق خمراً أو خنزيراً، لعدم تقوّمهما، كما هو مبيّن في مصطلح‏:‏ ‏(‏سرقة‏)‏‏.‏

د - إذا بغى جماعة من أهل الذّمّة منفردين عن المسلمين انتقض عهدهم عند جمهور الفقهاء، إلاّ إذا كان بينهم عن ظلمٍ ركبهم عند المالكيّة، وإذا بغوا مع البغاة المسلمين ففيه تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏بغيٍ‏)‏‏.‏ هذا، ويعاقب أهل الذّمّة بعقوبة قطع الطّريق ‏(‏الحرابة‏)‏ إذا توفّرت شروطها كالمسلمين بلا خلافٍ‏.‏

ثانياً - ما يختصّ بأهل الذّمّة في القصاص‏:‏

38 - أ - إذا ارتكب الذّمّيّ القتل العمد وجب عليه القصاص، إذا كان القتيل مسلماً أو من أهل الذّمّة بلا خلافٍ، وكذلك إن كان القتيل مستأمناً عند جمهور الفقهاء، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال‏:‏ إنّ عصمة المستأمن مؤقّتة، فكان في حقن دمه شبهة تسقط القصاص‏.‏

أمّا إذا قتل مسلم ذمّيّاً أو ذمّيّةً عمداً، فقد قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا قصاص على المسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يقتل مسلم بكافرٍ»، وعند الحنفيّة يقتصّ من المسلم للذّمّيّ، وهذا قول المالكيّة أيضاً إذا قتله المسلم غيلةً ‏(‏خديعةً‏)‏ أو لأجل المال، وتفصيله في مصطلح ‏(‏قصاص‏)‏‏.‏

ب - لا فرق بين المسلم والذّمّيّ في وجوب الدّية في القتل الخطأ وشبه العمد وشبه الخطأ على عاقلة القاتل، سواء أكان القتيل مسلماً أم من أهل الذّمّة‏.‏

وفي مقدار دية الذّمّيّ المقتول، ومن يشترك في تحمّلها من عاقلة الذّمّيّ القاتل تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏دية‏)‏ و ‏(‏عاقلة‏)‏‏.‏

ولا تجب الكفّارة على الذّمّيّ عند الحنفيّة والمالكيّة، لما فيها من معنى القربة، والكافر ليس من أهلها، ويجب عند الشّافعيّة والحنابلة لأنّها حقّ ماليّ يستوي فيه المسلم والذّمّيّ، لا إن كانت صياماً‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ كفّارة‏)‏‏.‏

ج - لا يقتصّ من المسلم للذّمّيّ في جرائم الاعتداء فيما دون النّفس، من الجرح وقطع الأعضاء، إذا وقعت بين المسلمين وأهل الذّمّة عند الشّافعيّة والحنابلة، ويقتصّ من الذّمّيّ للمسلم، وقال الحنفيّة بالقصاص بينهم مطلقاً إذا توفّرت الشّروط، ومنع المالكيّة القصاص فيما دون النّفس بين المسلمين وبين أهل الذّمّة مطلقاً، بحجّة عدم المماثلة‏.‏ ولا خلاف في تطبيق القصاص إذا كانت الجروح فيما بين أهل الذّمّة وتوفّرت الشّروط‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ قصاص‏)‏‏.‏

ثالثاً - التّعزيرات‏:‏

39 - العقوبات التّعزيريّة يقدّرها وليّ الأمر حسب ظروف الجريمة والمجرم، فتطبّق على المسلمين وأهل الذّمّة، ويكون التّعزير مناسباً مع الجريمة شدّةً وضعفاً ومع حالة المجرم‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏تعزيرٍ‏)‏‏.‏

خضوع أهل الذّمّة لولاية القضاء العامّة

40 - جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على عدم جواز تقليد الذّمّيّ القضاء على الذّمّيّين، وإنّما يخضعون إلى جهة القضاء العامّة الّتي يخضع لها المسلمون‏.‏ وقالوا‏:‏ وأمّا جريان العادة بنصب حاكمٍ من أهل الذّمّة عليهم، فإنّما هي رئاسة وزعامة، لا تقليد حكمٍ وقضاءٍ، فلا يلزمهم حكمه بإلزامه، بل بالتزامهم‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن حكم الذّمّيّ بين أهل الذّمّة جاز، في كلّ ما يمكن التّحكيم فيه، لأنّه أهل للشّهادة بين أهل الذّمّة، فجاز تحكيمه بينهم‏.‏ إلاّ أنّهم اتّفقوا على‏:‏ أنّه لا يجوز تحكيم أهل الذّمّة فيما هو حقّ خالص للّه تعالى كحدّ الزّنى، وأمّا تحكيمهم في القصاص ففيه خلاف بين الحنفيّة‏.‏

41 - وإذا رفعت الدّعوى إلى القضاء العامّ يحكم القاضي المسلم في خصومات أهل الذّمّة وجوباً، إذا كان أحد الخصمين مسلماً باتّفاق الفقهاء‏.‏

أمّا إذا كان كلّهم من أهل الذّمّة، فيجب الحكم بينهم أيضاً عند الحنفيّة والشّافعيّة، وهو رواية عند الحنابلة، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنِ احْكُمْ بينهم بما أَنْزلَ اللّهُ‏}‏ وفي روايةٍ أخرى للحنابلة‏:‏ القاضي مخيّر بين الأمرين‏:‏ الحكم أو الإعراض بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنْ جَاءوك فاحْكُمْ بينهم أو أَعْرِضْ عنهم‏}‏‏.‏

أمّا المالكيّة فقد اشترطوا التّرافع من قبل الخصمين في جميع الدّعاوى، وفي هذه الحالة يخيّر القاضي في النّظر في الدّعوى أو عدم النّظر فيها‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاءٍ‏)‏ ‏(‏وولايةٍ‏)‏‏.‏ وفي جميع الأحوال إذا حكم القاضي المسلم بين غير المسلمين لا يحكم إلاّ بالشّريعة الإسلاميّة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن احْكمْ بينهم بما أنزل اللّه ولا تَتّبعْ أَهْواءهم واحْذرهم أن يَفْتِنُوك عن بعض ما أَنْزَل اللّه إليك‏}‏‏.‏

ما ينقض به عهد الذّمّة

42 - ينتهي عهد الذّمّة بإسلام الذّمّيّ، لأنّ عقد الذّمّة عقد وسيلةً للإسلام، وقد حصل المقصود‏.‏ وينتقض عهد الذّمّة بلحوق الذّمّيّ دار الحرب، أو بغلبتهم على موضعٍ يحاربوننا منه، لأنّهم صاروا حرباً علينا، فيخلو عقد الذّمّة عن الفائدة، وهو دفع شرّ الحرب‏.‏ وهذا باتّفاق المذاهب‏.‏ وجمهور الفقهاء على أنّ عقد الذّمّة ينتقض أيضاً بالامتناع عن الجزية، لمخالفته مقتضى العقد‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ لو امتنع الذّمّيّ عن إعطاء الجزية لا ينتقض عهده، لأنّ الغاية الّتي ينتهي بها القتال التزام الجزية لا أداؤها، والالتزام باقٍ، ويحتمل أن يكون الامتناع لعذر العجز الماليّ، فلا ينقض العهد بالشّكّ‏.‏

43 - وهناك أسباب أخرى اعتبرها بعض الفقهاء ناقضةً للعهد مطلقاً، وبعضهم بشروطٍ‏:‏ فقد قال المالكيّة‏:‏ ينقض عهد الذّمّة بالتّمرّد على الأحكام الشّرعيّة، بإظهار عدم المبالاة بها، وبإكراه حرّةٍ مسلمةٍ على الزّنى بها إذا زنى بها بالفعل، وبغرورها وتزوّجها ووطئها، وبتطلّعه على عورات المسلمين، وبسبّ نبيٍّ مجمعٍ على نبوّته عندنا بما لم يقرّ على كفره به‏.‏ فإن سبّ بما أقرّ على كفره به لم ينتقض عهده، كما إذا قال‏:‏ عيسى إله مثلاً، فإنّه لا ينتقض عهده‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو زنى ذمّيّ بمسلمةٍ، أو أصابها بنكاحٍ، أو دلّ أهل الحرب على عورة المسلمين، أو فتن مسلماً عن دينه، أو طعن في الإسلام أو القرآن، أوذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم بسوءٍ، فالأصحّ أنّه إن شرط انتقاض العهد بها انتقض، وإلاّ فلا ينتقض، لمخالفته الشّرط في الأوّل دون الثّاني‏.‏

وقال الحنابلة في الرّواية المشهورة، وهو وجه عند الشّافعيّة‏:‏ إن فعلوا ما ذكر أو شيئاً منه نقض العهد مطلقاً، ولو لم يشترط عليهم، لأنّ ذلك هو مقتضى العقد‏.‏

أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بأنّ الذّمّيّ لو سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينقض عهده إذا لم يعلن السّبّ، لأنّ هذا زيادة كفرٍ، والعقد يبقى مع أصل الكفر، فكذا مع الزّيادة، وإذا أعلن قتل، ولو امرأةً، ولو قتل مسلماً أو زنى بمسلمةٍ لا ينقض عهده، بل تطبّق عليه عقوبة القتل والزّنى، لأنّ هذه معاصٍ ارتكبوها، وهي دون الكفر في القبح والحرمة، وبقيت الذّمّة مع الكفر، فمع المعصية أولى‏.‏

حكم من نقض العهد منهم

44 - إذا نقض الذّمّيّ العهد فهو بمنزلة المرتدّ في جميع أحكامه، ويحكم بموته باللّحاق بدار الحرب، لأنّه التحق بالأموات، وتبين منه زوجته الذّمّيّة الّتي خلّفها في دار الإسلام، وتقسم تركته، وإذا تاب ورجع تقبل توبته وتعود ذمّته، إلاّ أنّه لو غلب عليه المسلمون وأسر يسترقّ، بخلاف المرتدّ، وهذا كلّه عند الحنفيّة‏.‏

وفصّل المالكيّة والشّافعيّة في حكم ناقض العهد، حسب اختلاف أسباب النّقض، فقال المالكيّة‏:‏ قتل بسبّ نبيٍّ بما لم يكفر به وجوباً، وبغصب مسلمةٍ على الزّنى، أو غرورها بإسلامه فتزوّجته، وهو غير مسلمٍ، وأبى الإسلام بعد ذلك، أمّا المطّلع على عورات المسلمين فيرى الإمام فيه رأيه بقتلٍ أو استرقاقٍ‏.‏ ومن التحق بدار الحرب ثمّ أسره المسلمون جاز استرقاقه، وإن خرج لظلمٍ لحقه لا يسترقّ ويردّ لجزيته‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ من انتقض عهده بقتالٍ يقتل، وإن انتقض عهده بغيره لم يجب إبلاغه مأمنه في الأظهر، بل يختار الإمام فيه قتلاً أو رقّاً أو منّاً أو فداءً‏.‏

أمّا الحنابلة، فلم يفرّقوا بين أسباب النّقض في الرّواية المشهورة، وقالوا‏:‏ خيّر الإمام فيه بين أربعة أشياء‏:‏ القتل والاسترقاق والفداء والمنّ، كالأسير الحربيّ، لأنّه كافر قدرنا عليه في دارنا بغير عهدٍ ولا عقدٍ، فأشبه اللّصّ الحربيّ، ويحرم قتله بسبب نقض العهد إذا أسلم‏.‏ هذا، ولا يبطل أمان ذرّيّتهم ونسائهم بنقض عهدهم عند جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ لأنّ النّقض إنّما وجد من الرّجال البالغين دون الذّرّيّة، فيجب أن يختصّ حكمه بهم‏.‏ ويفهم من كلام المالكيّة أنّه تسترقّ ذرّيّتهم‏.‏

أهل الشّورى

انظر‏:‏ مشورةً‏.‏